الانزياح نحو الأحمر
أو كاميليا في أرشيف الأفلام
كارين ضومط | حزيران ٢٠٢٠
من معرض على مشارف الغابة حديقة
النسخة الفرنسية للنص
من قصيدة لإنجيبورغ باخمان عنوانها “بدون بشر”، هي جزء من مجموعة إحدى عشر قصيدة، سُجلت للمرة الأولى على الراديو الشمال الغربي الألماني بهامبورغ في ٢٧ أيار ١٩٥٢: ?Wer weiß, ob wir nicht lange, lang schon streben من يدري إن كنا، منذ زمن طويل، ببطء نموت؟
رأيتُني أخرج من شقتي الصغيرة المؤقتة في لوبكرتراسي ٥، وأركب دراجتي الهوائية متّجهة نحو مجمّع “الأخضر الصامت“، الواقع على بعد عشر دقائق فقط. أعبر خطاً يكاد أن يكون مستقيماً، أجتسرُ نهر السبري وأنتقل من موابيت إلى ڤيدينغ. أدخل البوابة الرئيسة، أركن الدراجة وأسحب دفتري الأبيض لأكتب: أن الدخول إلى الأرشيف هو بمثابة تسلّلٍ إلى العالم الآخر.
أجلس في المقهى المقابل لمقبرة أورنيفريدهوف غيريشتراسي أتأمل الأشجار، تائهة لا أدرك بعد ما ينتظرني هنا ولا من أين أبدأ لمؤانسة تيهي. أتذكر ما سألني أحدهم قبل أيام “هل وجدت أفلاماً مثيرة في الأرشيف؟“، وأخجل من عدم قدرتي على إعطائه جواباً واضحاً، إذ انني لم أصادف إلا لقية واحدة لا أعرف كيف أصنّفها، فأهميتها بالنسبة لي لا تكمن بكونها “فيلماً مثيراً“، بل في تفصيلٍ هو في الحقيقة “ثغرة” في نسخة فيلمٍ لجان ماري ستروب ودانيال هوييه بعنوان “سجل آنّا مجدلينا باخ“. ما وقع عليه نظري هنا، هو ضربة فرشاة رمادية على مشهد بالأبيضٍ والأسود أعطيتها اسم “الثغرة الراقصة”، إذ هي ندبة ترقص على جسد الفيلم بينما يديّ آنّا مجدلينا باخ تعزف مقطوعة كلافيير والتي ألّفها لها زوجها. أتذكر ما كتبه أحدهم زار أرشيف الأفلام من قبلي، وأقرأ أجزاء منه مرة أخرى:” ألا يبقى الفيلم على قيد الحياة فقط خلال فترات تكوينه حين ينمو ويتبدّل ويتطوّر… فالتغيير الأخير لنسيج الفيلم على طاولة المونتاج\ صالة تصحيح الألوان\ استوديو الصوت، يضحى آخر لحظة من حياته الفعلية – كما نعرفها نحن؟ هل من الممكن أن يموت الفيلم بين تلك اللحظة ولحظة عرضه الأول؟ هناك، مرحلة جديدة تنتظره؛ حلقات مفرغة من اعادة الإحياء بينما يدخل عالم اللاموتى“.
أنهض وأدخل مبنى الأرشيف الذي كان محرقة قبل عشرات السنين. أرى ماركوس وناتالي منهمكان بإزالة الغبار عن أشطر السليولويد. أتوجّه نحو الكمبيوتر وأبحث في الفهرس عن شيء لا يزال غائباً عني. أتوه بين الأسماء المألوفة والغريبة. هل في كل أرشيف لقية فريدة تنتظر كل واحد يجرؤ على السرح؟ أيُّ شكل تأخذ علاقة المونتير مع الصورة، بالأخص تلك التي يراها للمرة الأولى؟ هل يمكن أن ينظر إليها، أي إلى الصورة، دون ان يفتعل عملية التماثل التي اعتادها أو بالأحرى مرَّن نفسه عليها؟ أَم هل يتطلّع إلى لحظاتِ انقطاعٍ أو تواصلٍ في إيقاع الفيلم، تماماً كتلك التي يملك هو القدرة على خلقها؟ هل يمكن لشوائب في جسم الفيلم المادي، أن تسبّب بظهورها المفاجئ إنقطاعات، فتبطل احتمال رؤية الفيلم ككيانٍ كاملٍ متكاملٍ؟ هل يمكن لهذه الثّغرات أن توّلد سرداً جديداً من تجربة السرح في الأرشيف؟
أجلس لوقت طويل يكاد أن يكون ساعات، أمام شاشة الكمبيوتر الذي يَحوي كل تلك الأفلام القريبة والبعيدة عني. أسحب تلقائياً البطاقة المخصّصة لجان ديلمان من بين سائر البطاقات. على الجهة الأمامية من البطاقة أرقام وعبارات مشفّرة، وعلى الجهة الخلفية كلمة بالألمانية من السهل تخمين معناها: Rotsich \ مائلة نحو الأحمر أذهب بالبطاقة إلى ناتالي، فتقرأ رقم النسخة وهوX81059 مكونة من ١٠ بكرات، إذ أن مدة الفيلم ٢٠٢ دقيقة. تقول لي أن الأفلام التي تصل إلى درجة ٤\٥ كما هو حال النسخة هذه، تعتبر في آخر عمرها، وتكاد تكون غير صالحة للمشاهدة. هل مشاهدة جان ديلمان يشكّل خطراً على حياتها إذا؟ نعم، تقول ناتالي. يقترب ماركوس: لا يوجد جواباً واحداً لهذا السؤال، انه قرار دقيق. من وجهة نظر الأرشيف نسأل: هل هي النسخة الوحيدة للفيلم؟ هل هنالك نسخة ثانية لنفس الطبعة؟ هل هي نسخة نادرة عالمياً؟ هل هنالك خيارات أخرى تتيح لهذه النُسخة بالذات أن تُعرض؟ كيف يُقاس القرار بين المحافظة على النسخة وجعلها متاحة للمشاهدة؟ في هذه الحالة بالذات، أي حالة النسخة الحمراء، يخسر الفيلم بعض من جماليته الأصلية، فيكون السؤال: ماذا يبقى من نوايا المخرج؟ هل كان، وفي حال وفاته، سيوافق على عرض فيلمه هرِماً وشبه متلوفاً؟ أما من وجهة نظر ميكانيكية أو فيزيائية، فإن مشاهدة الفيلم على طاولة المونتاج يعرِّضه لتلفٍ أقل من لو تمّ عرضه عبر آلة العرض في صالة السينما. ولكن هل تتحمّل هذه النسخة كلتا الطريقتين؟
هل كان من الضروري أن أشاهد هذا الفيلم بالذات في هذا اليوم بالذات؟ كأنهما يتنبأن ما سوف يحصل، لم يعارض ماركوس وناتالي طلبي. ها أنا إذا أسير وراء ناتالي في الجِناح حيث تقطن الأفلام. نجد العلب التي تحوي جان ديلمان في المواقع رقمU1.2-13-03-02-01 و U1.2-13-03-02-02 أي في الصالة رقم U1.2 الواقعة في الطابق الأرضي الموازي للمكاتب ولصالات المونتاج، على القسم رقم ١٣ الرف رقم ٣. نتشارك أنا وناتالي عملية نقل العلب العشرة. كل علبة طولها ٣٥،٥سم وعرضها ٣٥،٥ سم، تسعٌ منها من كرتون والأخيرة من حديد. كل علبة تزن حوالي ٣،٥ كغ. أحمل آنا وناتالي ثلاث بكرات، ونمضي بها إلى غرفة المشاهدة. ثم نعيد الكرة مرة أخرى، فتحمل ناتالي ثلاث بكرات واحمل انا ربع، ونصل إلى طاولة الKEM. تفتح ناتالي العلبة الأولى، وتحمل البكرة الأولى بين ذراعيها لتثبتها على الترس، وتباشر بحركات محدّدة ومتكرّرة تمكِّنُها من إعادة لفّ البكرة حتى تصل إلى نقطة البداية الخاصة بها. بينما تؤدي ناتالي هذه الطقوس بتأنٍ وصمت، أعجَب وأهتف بالألمانية:
Jeanne ist rot! إن جان حمراء!
أجلس في غرفة المشاهدة رقم ١، وأبدأ بالبكرة الأولى، فتظهر جان بكل أطياف الأحمر. تتنقل جان في شقة بلا نوافذ ظاهرة، تهيم بين غرفة وأخرى في حركات متكررة تكاد أن تكون غير منقطعة. تدخل المطبخ وتضع طنجرة على النار، تجفف يداها بقطعة من القماش ثم تعلّقها فوق حوض غسل الصحون، وتخرج من المطبخ سالكة الممرّ الداكن نحو غرفة النوم حيث تشعل الضوء – ضوء في وضح النهار – وتفتح نافدة لا نراها ثم ترتب السرير وتضع ملابس النوم تحت الوسادة ثم تعود وتقفل النافذة المستترة، وتطفئ الضوء وتخرج من الغرفة وتعبر الممرّ مجدداً وهي تملّس طيات كنزتها الصوفية وتدخل المطبخ حيث…
تجفف يداها بقطعة من القماش ثم تعلّقها فوق حوض غسل الصحون
ها أنا أمام الشاشة، متسمّرة كالذي رأى شبحاً. أرى جسداً ينكبّ على الحركة، ظنّاً أنّها تخفي غضبه، بينما الفيلم يحيله عنفاً بفعل احمراره. أنا التي، تماماً مثل جان، يسكنني هَذَيان الترتيب والانضباط لأكتم غضبي حين يحضَرُني، أرى في ذلك الإصرار على الحركة غضباً صامتاً يتحول عنفاً، عنفاً عمره آلاف وملايين السنين. أكتب على دفتري الصغير الأبيض: هل هو نفسه العنف الذي يلتحم بي، غضبي الأحمر وكأنّه انعكس على الفيلم، خرق الشاشة وانبعث على حيطان منزل جان وفراشها، على جسد جان ووجهها وملابسها، على إبنها وعلى الرجال الذين يأتون اليها سرّاً، على الطريق المؤدية إلى المقهى وعلى المقهى وروّاده، على الطفلين اللذين تصادفهما في طريق العودة المحتَّمة إلى المنزل؟ يأتي صوت مارغريت دوراس مألوفاً وكأنه يواسيني: “يقول ميشليه ان هكذا ولدت الساحرات. ففي القرون الوسطى، يذهب الرجل إلى الحرب، حرب الإله أو الحملة الصليبية، وتبقى النساء في الأرياف وحيدة تماماً، منعزلة عن كل شيء لشهور عدة. شهر بعد شهر، في الغابة، في كوخ صغير. وهكذا، من تلك العزلة، عزلة يصعب علينا تخيُّلها اليوم، بدأت النساء تتكلّم مع الأشجار والنباتات والحيوانات، الحيوانات المفترسة. يعني ذلك أنّهن دخلن… كيف أقول ذلك… اخترعن التواصل مع الطبيعة، أعدن ابتكاره، تواصل بدأ منذ… منذ ما قبل التاريخ إذا صحّ القول. وسُمّيت بالساحرات. وحُرقت. ما زلنا اليوم عالقات 1https://www.facebook.com/Ina.fr/videos/marguerite-duras-évoque-son-regard-féminin-sur-la-maison-1976/984281852090306/هناك. نحن النساء، ما زلنا هناك، هنا. لم يتغيّر ذلك أبدا“.
هل نحن – انا وجان – ساحرات؟ لا أرى في منزلها، وعلى عكس منزلي حيث تكاد النباتات تساكنني المكان، أثراً لأي شجيرة أو شتلة، الّا في شكلٍ من اشكال الزينة في مزهرية وسط الطاولة أو في لوحة مبرزة على الحائط. أي نوعٍ من التخاطب قد يحصل بين جان والأزهار الجامدة في المزهرية، أو بينها وبين تلك المرسومة في اللوحة؟ فالزهور في كِلا الموقعين قد ماتت مرّتين، مرّة بفعل قطفها ورسمها، ومرة ثانية ونهائية بفعل تشييعها شخوصاً في فيلم أحمر لا يغادر العلب الحديدية في الأرشيف، إلّا في حالات استثنائية نادرة.
… الّا في شكلٍ من اشكال الزينة في مزهرية وسط الطاولة أو في لوحة مبرزة على الحائط
٣.
بينما تضع ناتالي البكرة الجديدة – لا أجرأ على التلاعب بجهاز العرض بعد، ولا لمس الفيلم الأحمر خوفاً من أن أعجِّل تواريه – أتذكر ما كتبته صديقتي إيزابيل، هي التي تعمل بالأرشيف والتي قالت لي يوماً أن الأرشيف يسمّى أيضاً عِلمُ الليل، أي علم الأمور الخفيّة المتوارية. كتبت إيزابيل:
S’absenter en demeure | Je m’absente en demeure | Tu t’absentes en demeure | Nous nous absentons en demeure
فكلمة (demeure) في الفرنسيّة تعني المنزل، ولكنها أيضاً إذا استُعملت كفعل، فهي تدّل على فعل البقاء. أما فعل (s’absenter)، فهو يعني أن تغيب، وقد مزجت ايزابيل في نصٍ شعريٍ لها بين فعليّ الغياب والبقاء بعبارة واحدة: أن تغيب وسط البقاء. هذه العبارة تذكرني بالمسلسل التلفزيوني التجريبي لمحمد سويد الذي عُرض على تلفزيون لبنان سنة ١٩٩٤ وعنوانه: أنا في الكاميليا. يبدو لي ذلك العنوان الغامض، وصفٌ لحالتي الوجود والتخفّي المتزامنتين: فماذا يعني أن تكون “في” الشيء، بينما الشيء نفسه مجهولاً ومتعدداً، يأخذ حيناً شكل امرأة، وأحياناً شكل زهرة، وفي جميع تلك الأشكال، يبعث شعوراً متناقضاً بالحزن والإلهام، بالوحدة والتواصل؟ في تعريفٍ شخصي وغير موضوعي لتلك الحالة، أقترحُ أنّ “الكاميليا” هي فضاء ما، يختلط فيه العالم الخارجي مع عالمنا الداخلي دون أن يلتقيان فعلاً، وفي ذلك العجز عن التلاقي، ربما يكمن نسج السرد باحتمالات الشعر.
٤.
تبدأ البكرة مع عودة جان إلى المنزل. تظهر على زاوية من الصورة دائرة بيضاء كأنّها القمر بدراً، وتتكاثر ثغرات من اللون الأصفر تقتحم الصورة الحمراء، حشرات طفيلية تشبه تلك التي تنهال عليك في الغابة، في اللحظات القليلة قبل حلول الظلام. أسأل ناتالي عنها، فتجيب انها مجرّد غبار. يعود لي ما قاله محمد سويد يوماً بالحديث عن الغبار: إنّ الغبار في الأساس هو أصل الكون قبل الإنفجار العظيم. الغبار يعني الأسرار التي بإمكانها أن تظهر حين أحاول استنطاقها، حتّى أصل إلى علاقة ممكنة مع الكون الذي أعيش فيه. فإذا أراد الغبار أن يتحدّث، هل سوف يعبّر عن حنين لِما قبل الإنفجار العظيم وتشكيل الكواكب، أم أنّه يعيش فقط في الزمان والمكان الحاليين؟ قال: إنّ الغبار يتحلّى بشغفٍ يجعله يلامس الفيلم ويلتصق به. إن الغبار يحمل الكثير من الشغف، ولا بد من أنّه سيقتل الفيلم المحفوظ في الأرشيف لأنّ كثرة الشغف تؤدي إلى الهلاك. قد لا يحمل لقب العدّو، إنّما الحبيب الذي لا يمكن تحمّله، ذلك الذي يسمّى The unbearable lover. قال: ألا نقول دوماً “إنك تخنقني بحبّك“؟ أما بعد… يلعب الغبار دور القناع الذي نحتاجه لإخفاء بعض الأمور. الغبار هو الحجّة التي تدفعنا الى إغلاق الأمور حتى تغيب عن ناظرنا. ولكنّه قناع غير وقائي، فكم من الأشياء التي نرغب بالتخلّص منها، ولكن ليس بفعل يدّينا؟ ما زلت أحتفظ برسائل الحبّ القديمة، أجهل سبب عدم إتلافها، مع العلم أنّني لا أعاود قراءتها. أحتفظ بها ليأكلها الغبار.
ماذا لو رأت شانتال أكيرمان ذلك الغبار الذي جاء ليلتصق بجان؟ ماذا لو شهدت على مزيج الغبار هذا بالنسخة الحمراء؟ هل كانت ستُعجَب مثلي بالفعلين المتزامنين للوقت على النسخة؟ هل كانت سترى في هذين الفعلين تشويهاً، أو أنّها ستعجب مثلي بعمليّة التشريح التي تحصل، تشريحاً لجسد الفيلم وروحِ جان معاً؟
تظهر على زاوية من الصورة دائرة بيضاء كأنّها القمر بدراً
٥.
ها هي جان إذاً، منغمسة بكل أنماط الأحمر، تدخل المنزل وتخلع معطفها لتعلّقه على الشماعة، فيسكنها هذيان الترتيب والانضباط من جديد: تزيل الشرشف المطرّز والمزهرية عن الطاولة، تضع عليها شرشفاً كأنّه أبيض، لكنّه بالفعل أحمر مثل كل شيء آخر هنا، الصحنين والفضّيات، الخزانة الزجاجية المنتصبة وراء مائدة الطعام… ثم ندخل معها مجدداً المطبخ الأحمر… يصل الإبن ويضع شنطة كتبه في وسط الطاولة. تُحضِر جان الأكل على المائدة دون أن يتوقف هو عن القراءة، تماماً كما لو كانت جان طيفاً في المكان وليست جسداً، كأنّها مستترة ليس لها وجود حقيقي إلّا من خلال تكرار حركات تؤدّي إلى تواجد الطعام على المائدة، تماماً وكأنها ميتةٌ تخرج من الغرفة ثم تعود بعد لحظات قليلة وفي يدها رسالة. تقرأ الرسالة، رسالة من أختها، بينما الابن الصامت يتظاهر بالاستماع: عزيزتي جان، لقد حلّ الآن فصل الشتاء… لماذا لا تأتين لزيارتنا في مونتريال؟ لقد ضحّيت بالكثير منذ موت زوجك، ويجب عليك الآن المضّي في حياة جديدة
…عزيزتي جان، لقد حلّ الآن فصل الشتاء
تصلني رسالة صوتية، بينما تنهي جان القراءة، ويتوقّف الابن عن التظاهر بالاستماع. تقول لي لميا: هل صوت خُطاي على الثّلج مسموعاً؟ أعجَب. هل نحن في فصولٍ مختلفةٍ وعلى عكس ما هو ظاهر، هي وجان في الشتاء وأنا وحدي هنا في الصيف؟ يضيع مني الوقت بينما صوت لميا يمتزج بصوت خطواتها على الثّلج وتقول: خرجت أمشي. الدّنيا تُثلِج. هذا تفصيل طبيعي هنا: إن الدّنيا تُثلِج. ماذا أقول لكِ؟ أريد أن أقول إنّي لم أعد أتذكر احلامي، فلا أستطيع أن أرويها لكِ كما كنت أفعل من قبل. انني احلم ويُمحى مني الحلم بينما احلم، وكأني احلّله وأنا احلمه، فلا يعد له سبب وجود في الصباح. أمامي مساحة بيضاء شاسعة وإنني أدوسها وأُلطّخها فيما أمشي، أتأملها وأُلطّخها في الوقت عينه. عندي شعورٌ ممتعٌ بالتخريب، وكأنّي أعوِّض بذلك عن كل الذي كان ممنوعاً أو الذي كان عليّ دوماً الحفاظ عليه من التّلف، وكأن الأشياء كانت دوماً أكثر أهمّية مني. إنّي بفعليّ التأمّل والتخريب المتوازيان، أنتقم من كل تلك الأمور التي كانت دوماً… لنعود إلى الأحلام. إنّني في الحقيقة أحلم، ولكن أحلامي أقرب إلى أساطير، تكاد أن تكون سريالية. كل الصور مبعثرة والشخوص تختلط وتتراكم ببعضها البعض، وكأن الحلم مكوّن من طبقات لامتناهية من الأحداث، ولكن كلّ تلك الأحداث والشخوص هي في النهاية جسماً واحداً واضح المعالم، فإنّي وبكلّ سهولة تمكّنت من تحليل المنام ومحوه تلقائياً. أتوق للأحلام التي لا امحوها، فأرسلها لكِ بصوتي عند الصباح. مرّ وقت طويل دون ان أتكلّم. لم أعد اعرف الكلام. كل يوم أستيقظ ويستيقظ الأولاد معي، فأطعمهم وألبسهم وأرسلهم إلى المدرسة، ثم أجلس أمام الشاشة وأتابع صفّ اللغة الفرنسيّة. المعلمة تتكلم كثيراً ولا مكان لأتكلّم هناك. أجلس هنا لساعات أستمع بصمت. عند الثالثة والنصف، ينتهي الصف ويدخل الأولاد من الباب، وأكرّر نفس الأفعال معهم. يتكلّمون كثيراً ولكن بالفرنسيّة مع بعضهما البعض، بينما أنا مصابة بنوع من الخلل، خلل بالتواصل مرتبط بخلل وجودي، وكأني لا أعرف حالة غير تلك الحالة، حالة الصمت هذه، منذ أن ولدت، تأخذ أشكالاً متنوعة، ولكنها تتكرّر. ليس في ذاكرتي حالة غير تلك، تشبه حالة الكورونا التي أصيب بها العالم الآن، ولكنّها بالفعل سابقة لها… مممم… إنني أشمّ رائحة مسحوق غسيل جميلة، أحدهم يغسل الثياب الآن…
دون إشعار آخر، تظهر من الناحية الثانية من الزجاج الذي يفصل غرفة المونتاج عن الممرّ، امرأة فاتنة شقراء. تزيل جان الأطباق الفارغة عن المائدة، فتزيل السيدة الشقراء الغبار عن رفوف المنشورات في الممرّ. تدخل جان المطبخ مع الأطباق وتضعها في حوض غسيل الصحون، فتجلي السيدة الشقراء الصحون على حوض الغسيل الصغير في زاوية الممرّ. تمسح جان طاولة المطبخ، فتمسح السيدة الشقراء أرض الممرّ. أجلس هنا متسمّرة، وكأنّ وجودي هو الشرط الوحيد لوجود جان والإمرأة الفاتنة الشقراء في نفس الوقت، شاهدة على انشطارٍ في الزمان والمكان. هل خرجت جان من الفيلم وأخدت شكلاً جديداً هنا في فضاء الأرشيف؟ أو قد تكون جان قد نادت لتلك التي عرفتُ بعدها أن اسمها نورا، وهي من إحدى بلدان أوروبا الشرقية، لا تتكلّم لغة إلّا لغتها. تدخل نورا كل يوم الأرشيف بصمت، وتقوم بتسلسل أفعالٍ متكررة، هي ليس سوى تباين لِما روته لي لميا وما أراه على الشاشة الملطخة بالأحمر. ما هو نوع الخلل الذي يحدث بيننا نحن الأربعة الآن؟ أتخايُلنا في غرفةٍ حيطانها مرايا، كل واحدة منا تنظر إلى الأخرى ولا ترى إلّا ذاتها متعدّدة وشاسعة، في حالة انهيار، ولكن متّصلة ومتصاعدة
تترك جان الطفل على الطاولة وتمضي إلى المطبخ.
وتمضي إلى المطبخ. يبدأ الطفل بالبكاء. تعود جان لتضع المهد، وفيه الطفل المستتر، على كرسيّ الصالون. تجلس أمامه صامتة. لا يكفّ الطفل عن البكاء. تقتحمني صورة أمي في الشقة الصغيرة في باريس. أنا أبكي في الليل وأمي وحدها مع بكائي، عاجزة عن إسكاتي كي تتوقّف الجارة الفرنسية عن الضرب بالعصا على أرض الشقة العليا. تحمل جان الطفل فيزيد بكائه. يبكي وكأن خطراً ما يهدّده ولا أحد يستطيع ردع ذلك الخطر عنه. أريد لصوت العصا ان يتوقف، قالت أمي. أريدك أن تتوقفي عن البكاء كي تتوقف الجارة الفرنسيّة عن ضرب العصا على أرض الشقة العليا. لا أعرف ماذا أفعل بك في تلك اللحظة، انت لا تكّفين عن البكاء والعصا لا تتوقف عن الطرق. تنحرف صرخة الطفل وكأن جان قد خنقته. لكنه ليس إلا صوت قرقعة نهاية البكرة، صوتٌ يجهض صرخة الطفل. يعود الصمت أخيراً
لا يكفّ الطفل عن البكاء.
تخرج جان من جديد. أراها الآن من بعيد تجوب شوارعاً حمراء داكنة، وكأنّ اللون تفاقم لحظة خروج جان للمرة الثالثة. شيء ما يتبدّل هنا، شيء خفيّ مجهول. لا نراهم ابداً من بعيد، قال لي صديقي. تحدّثنا يومها عن أمي وأمه وكلّ تلك النساء في المنازل، محاطة بالشراشف والصحون والشتول، كلّ تلك النساء التي تنتظر رجلاً عائداً من الحرب أو من السفر أو من أي مكانٍ إلا فضاء ذلك المنزل حيث التجوال لا يكون إلا في حلقات، حلقات تكرار لامتناهية لا تنفك ان تؤخر وصولها إلى نقطة الانفجار الحاسمة. قلتُ: نحن إذاً أطفالُ تلك النساء التي تنتظر، وهي تقول لنا: هذا أمرٌ طبيعي، إن الانتظار أمرٌ طبيعي وغضبي أمرٌ طبيعي. إن غضب جدّتِك كذلك أمرٌ طبيعي، والطفل الذي انزلته منها طعناً بسنانير الصوف لتتلفه في المرحاض أمرٌ طبيعي. قال صديقي: ذلك الذي ترَينه هنا، وعلى عكس ما هو ظاهر، ليس فعل انتظار مستسلم. انهن – أمي وأمك وكلّ تلك النساء في المنازل – تُغرقن أنفسهن بحركة تجعل منهن جزءاً ممّا سوف يأتي، توظّبن المنزل وتحضّرن العشاء استباقاً لِما أو من سيأتي، للأحداث التي سوف يأتي بها الآتيين إليها. كل الأمور توفَد إليهن، فتَظهَرن لتختبئن بعدها في المنزل، إذ أن الداخل هو وحده الذي يمكنه احتواء ما سوف ينفجر لا محال. تسحبن الأمور والأحداث إلى الداخل فتضحى مخفيّة، حتى في وضح النهار. أما الخارج، فلا وجود له في الحقيقة، إذ انه خارج النظر، أو بالأحرى لا يمكن السيطرة عليه بالحركة، بفعل التنظيف هذا. قلت: ولكن يبدو لي أن نسخة الفيلم هذه تعاكس جان، فهي لا تنفكّ عن تنظيف فضاءها بينما يجتاحه الأحمر ويلطّخه.
قال الصديق: وماذا عن الغبار؟
قلت: الغبار أيضاً، لا ينفكّ عن اجتياح الصورة، بينما لا تكفّ جان عن مسح سطوحها. إن جان مهزومة لا محال.
قال: ولكن أليس هذا حالنا كلنا؟ أمّا جان، فأرى أنّها تحظى بفرصة ثانية، رغم انّها قد تكون الأخيرة، إذ أن الشخصيات في الأفلام تعيش في ومن التكرار، وتعيد لعب دورها في كل مرة يشاهد أحدهم الفيلم.. هل يصدف لها ان تلقاكِ في إحدى دوراتها، فتبعثين لها بفعل الكتابة حياة جديدة حتى ولو لم تكن مختلفة؟
أرسل للميا رسالة صوتية لأخبرها عن جان وأقول: بماذا حلمت جان يا تُرى طوال تلك الأيام الثلاثة حيث لم نرها نائمة ولو للحظة واحدة؟ لماذا تنتابني رغبة بالحفاظ على تلك الصور الحمراء، وكأنّي عثرتُ على كنزٍ ما يتيح لي مقاربة كل ذلك الذي يهوسني ويهدّدني معاً؟. انّي أرى صور جان على صوتِك الذي يروي لي ذكريات ويوميّات وأحلاماً تتشابك مع بعضها البعض، وتحمل سرداً مترابطاً ومبعثراً ، سرداً تختلط فيه قريتك رَخلَة بالشام، ببيروت ومونتريال. أسمع صوتي يمتزج بصوتِك ويروي قصة أمي وجدّتي التي تدور أحداثها بين بكفيا وبانغي وباريس، وقصة أم صديقي وجدّته التي لا تخرج من حدود بكفيا أبداً. هل إن قمت بحَبكِ قصصَ كلّ تلك النساء في المنازل، سأقضي على خوفي الدفين من أن أتحوّل إلى واحدةٍ منهنّ؟
أقولُ للميا: تبدين وكأنّكِ واحدةٌ “منهن“، ولكن في صوتك مزيجٌ من الإيقاعات والنبرات والتلعثمات الملهمة. فربما تشقّين معبراً سرّياً بيني وبينهنّ؟ إنّي أرى فيلماً أحمراً مكوناً من عدّة انشطارات، فأرسم على دفتري الصغير معالمها.
٦.
في نهاية البكرة الأخيرة، ومطبوعاً على آخر لحظة منها، ختم بالأسود على شكل دائرة ممتلئة. ألتقِطُه بعدسة التلفون فيبدو لي وكأنّه إشارة عن خاتمة لا رجوع عنها. لقد قامت جان وبشكل مفاجئ بقتل الرجل الذي كان في سريرها. لا شيء يمكن أن يعود إلى ما كان عليه بعد الآن. تجلس جان على مائدة الطعام ويداها ملطّختان بالدماء، غير أن الدماء وفي وسط كلّ ذلك الإحمرارليست إلا نغمة حمراء إضافية، مادة تكاد أن تكون غير ملحوظة. تمتلكني في الوقت عينه رغبة قويّة بإعادة مشاهدة الفيلم الأحمر، وخوف ممّا قد يفضحه التكرار من مبالغة، من تضخيم لتلك اللحظات التي عشتها معه، لحظات تبدو أقرب منها إلى العالم الآخر.
أخرج من غرفة المشاهدة. ناتالي وماركوس جالسان أمام شاشة الكمبيوتر. أنظر إلى الوجوه والحركات ولا أرى أي تغييرٍ في الملامح والإيقاع. كيف يمكن ذلك؟ ألم تمرّ منذ الصباح عشرات وعشرات السنين؟ ينتابني قلقٌ عارمٌ ومألوفٌ، خوفٌ من أن تتوارى التجربة لحظة خروجي من مبنى الأرشيف، رعبٌ مخضرمٌ من النسيان ولكن، وربما للمرة الأولى، أواجه ذعري هذا مستسلمة له. أقف أمام الباب الزجاجي الذي يفصلني عن الخارج وأسحب دفتري لأكتب متكِئَة على الزجاج: كنت لساعات طويلة (أكثر من أربع ساعات حتماً) أعبر من حُلُمٍ إلى آخر، ولكن عليّ الآنَ أن أقود نفسي بلا ضررٍ إلى عالم الصحو. أليس هذا ما ينبغي القيام به دائماً؟
ختم بالأسود على شكل دائرة ممتلئة.
٧.
أعود إلى بيروت، ويبدأ زمنٌ آخرٌ لم يكن في الحسبان. أكاد أن أنسى جان، الى أن تصلني رسالة الكترونية محمّلة بصورها الحمراء من الصديق الذي كان قد زار الأرشيف من قبلي وكتب عنها، فذكرني بها: إن تكرار جان للفعل نفسه فيما الزمان قد تبدّل، فيما انزلقت ميزاته ببطء نحو شكل آخر فتحوّل بذلك إلى زمان آخر، يمكن أن يؤدي إلى الانهيار، أو إلى التقوّس. فكل شيء من حولها هو قنبلة موقوتة، لا تتوقّع أبداً لحظة انفجارها. يكتب: أسمعت يوماً بالانسحاق الشديد؟ هو أحد السيناريوهات المحتملة لمصير الكون، والتي تفرض أن التوسّع الحاصل للكون بسبب طاقة الانفجار العظيم ستَتَبدّد وتنتهي بعد مدّة من الزمن، وستبدأ طاقة الجذب المركزية في لملمة أطراف الكون إلى أن يعود كتلة واحدة صغيرة في الحجم، عالية الكثافة. كتب: كأن العالم يُشفَط، يلتَّم على نفسه من الرقعة نفسها التي لم تلتئم، فتتحول بفعل الإبتلاع الداخلي هذا إلى ثغرة تحتوي العالم. ألا ترين أنّ تلك الثغرة هي الدائرة السوداء في آخر الفيلم الأحمر؟ أجيب: لا يبقى لنا إذاً إلا ان نحتفظ بالذي سوف يختفي للحظة أخيرة، قبل أن يتوارى.
يكتب لي مرة أخرى: أتعرفين ما هو “انزياح نحو الأحمر“؟ هو يحدث عندما يكون الضوء المرئي القادم من الأشياء متّجهاً إلى نهاية الطيف الضوئي. إنّ نهاية الطيف الضوئي هذا يظهر لنا كضوء أحمر. يُعرف “الانزياح نحو الأحمر” بأنه زيادة في الطول الموجي للأشعة الكهرومغناطيسية المُستَقبَلة عن طريق الكاشف، مقارنة بالطول الموجي المنبعث من المصدر. يُستفاد من “الانزياح نحو الأحمر” في معرفة تباعد المجرات عن بعضها، وفي إثبات حالة توسّع الكون الدائمة.
٨.
في تلك الليلة، أراسل لميا لأخبرها عن منامٍ أكتب فيه رسالة لجان، رسالة أضعها في مغلف، أنسخ عليه بخط يدي العنوان المدوّن على العلبة الحديدية التي تحتوي الفيلم الأحمر في الأرشيف:
23 quai du commerce, 1080 Bruxelles
أكتبُ:
عزيزتي جان،
أراك تنزاحين نحو الأحمر. إن كان لا بد من التحوّلات أن تحصل، فهل لدينا ولو فسحة صغيرة لتحويل مسارها؟
- 1