قراءات كاميليا

كارين ضومط
من معرض على مشارف الغابة حديقة
مسودّة لنص قيد الكتابة

قضت كاميليا السنوات الأولى للطفولة تقرأ أولاً الصفحة الأخيرة من كلّ كتابٍ قبل العودة إلى بدايته. كان ذلك طقساً غريباً للغاية يمكن أن يُنسبَ له تفسيرين: الأوّل والأكثر بداهة هو أن البادرة هذه تتيح للطّفل السّيطرة على عالمه الصغير وبذلك على العالم بأسره، بادرة دافِعَها خوفٌ دفين، موروثٌ أو مرتبطٌ بسنين الحرب التي ولد وترعرع فيها، خوفٌ يحجب عنه لذّة اكتشاف الأشياء الجديدة. أما التفسير الثاني، والأكثر جاذبية وازدواجية، فهو أنّه كان يريد مواجهة النهاية أولاً، كي يتسنى له من بعدها عبور العالم، أي عبور الكتاب، في حالة إدراك متبادَل بينهما: مفعم بالحياة ومُصمَتٌ بطعم الموت، مرتعش وساكن، معزول عنه ومسحور به، وكأنه محمَّلاً بمهمة سرية: تفَّقُد ما يمكن إنقاذه من الحياة.

 

كانت تقرأ بلا كلل في كل ساعات الليل والنهار. ثمّ وبشكل مفاجئ، أو ربما تدريجيهل وكيف تُحَدّد فعلاً نهايات شطور الحياة وبدايات المراحل وتبدُّلات الحال؟أشرَفَ هذا الشّطر من حياتها على نهايته وغادرتها القراءة. بدأت الكتب تتراكم من حولها، لا تقرأ منها سوى النهايات ومن ثم البدايات، قبل أن تتركها جانباً، غير قادرة على احتواء كل ذلك الشرود أو كل تلك الشخوص، إذ كان الواقع قد أفصح عن مكانة لم تكن في الحِسبان

 

ثم ومن دون إشعار مسبقأو بعد مرور وقت كاف يمكن تقديره بوحدتين زمنيَتَين أو وبوحدتي تبدّل حالبدأت تقرأ من جديد. ولكن كان عليها قبل كل شيء أن تتمرّن على نَفَس القراءة من جديد، أن تليِّنه، تماماً كالسابح الذي يكيِّف جسده على المياه بعد انقطاع طويل. خوفاً من أن تُسلب منها القراءة كما عادت إليها، صارت تقرأ من دون انتظام أو منطق، فقد أدركت أنها نجت من العيش حياة بأكملها بلا قراءة. في بداية هذه المرحلة، قاومتها الروايات الطويلة فألقت قبضتها على الشعر، إلى أن تعرّفت إلى نمط جديد ساحر: الكتابات المتشذّرة! فصارت تنتقل بنوع من الشغف يمكن أن يُنعت بالهوس، من المدوَّنات إلى المراسَلات ثم إلى اليوميات.

 

بعد فترة يصعب استرجاع أحداثها ومراحلها، أصيبت بحالة غريبة: لم تعد تستطيع القراءة إلاّ في وضح النهار! فكل شيء يُقرأ في الليل كان يبقى هناك، أي يُمحى من الذاكرة تلقائياً عند الصباح وكأنه ينتمي إلى عالمٍ مستترٍ لا يمكن أن يختلط بغيره من العوالم. أو على عكس ذلك، كأن عتمة النهار باتت أظلم من الليل، إذ أنّها لا تسمح الهروب من خلال النوم، فتضحي إذاً المَوطِن الطبيعي لأشباح الكاتب والقارئ مختلطة

 

بعد وقت قصير يمكن دمجه بالمرحلة السابقة، أصيبت بحالة أخرى: لم تعد تستطيع القراءة في الأماكن المغلقة! فكان عليها دوماً أن تذهب بالكتاب نزهة في القرية حيث كانت تعيش، وكأنّه لا يسلِّم نفسه لها الكتاب إلاّ في تماسٍ تامٍ مع العالم الخارجي، مهما كان ذلك العالم ضيقاً وتكرارياً، فارضاً عليها الإختلاط هذا وكأنه يتنبأ بما يكمن في الخارج من احتمالات وتحوّلات ولو كانت غير مرأية بعد. كما تبنّت الطفلة، وبالتزامن مع ذلك، عادة جديدة، أو في الحقيقة عادتان متّصلتان ببعضهما البعض، وكأن الواحدة تولِّد الأخرى، أو أنّها قد توُلد منها، عادتان مرتبطتان بأداة واحدة بسيطة: قلم رصاص في ذيله ممحاة. فمن جهة بدأت تسطِّر الكلمات والعبارات والجُمَل التي تشعر بالتَماس معها، وقد تصل إلى حد تسطير مقاطعَ كاملة، وكأنّها بذلك تقوم بعملية تشبه بالسّينما ما يُسمّى بال(derushing)، أي فعل انتقاء من بين الصّور ما قد يُصنع منه فيلماً، بينما الباقي يُتلف مؤقتاً وحتى إشعارٍ آخر. بعدها، أخذت تنسخُ تلك الكلمات والعبارات والجمل وصولاً إلى المقاطع على دفتر مدوَّنات صغير لم يعد يفارقها أبداً. بهذا الفعل البسيط، صار على الدفتر الصغير صفحات إذا قُرأت بمَعزل عن مصدرها، تشكِّل تركيبات قائمة بحدّ ذاتها، وقد تعبِّر عن الذي قَرأ الكتاب أكثر من عن كاتبه.

على مشارف ما يعرف ب”سنّ الرشد”، توقفت كاميليا من جديد عن القراءة.