كاميليا في المسبح
كارين ضومط
من معرض على مشارف الغابة حديقة
مسودّة لنص قيد الكتابة
خَرَجَت من المنزل، واتجَهَت نحو الشمال عبر الكورنيش. مشت بموازاة البحر ونظرها مسمّر إلى الأمام، باتجاه المرفأ المنكوب، الذي يخفيه الشطر الشمالي من واجهة بيروت البحرية. وصلت قُبالة المنارة الجديدة، عبرت البوابة الرئيسية للجامعة حيث يقف الحارس كعادته. مضت في الممر الطويل حيث يلعب شابان البينغ بونغ، وانعطفت نحو اليمين، ثم سلكت الدرج صعوداً، رأت امرأة ببدلة تنظيف زرقاء تركع لتقوم بحركة مسحٍ للأرض. دخلت المسبح الذي يشبه الأكواريوم وتمّعنت بالنّظر إلى نافذات زجاجية عملاقة، تطلّ على شجر نخيل ومن ثم على سماء وبحر. نزعت ملابسها، وضعت نظارات السّباحة، بونييه مطاطيّ أسود، وسدادات الأذن، ثم غاصت في الماء المُكلورة.
ها هي الآن تسبح في حركة ذهاب وإياب متواصلة ومنتظمة لدقائق عديدة، إلى أن تماهى جسدها تماماً مع الماء والحركة.
من دون سابق إنذار، تتسلّل إليها شذرات أفكار كأنها تنبع من كائن آخر قد تبنّاها موطناً مؤقتاً له. تتسارع الخواطر وتتحّول إلى كلمات محدّدة ثابتة، وكأنّ أحدهم يمليها عليها. تواصل حركات السباحة بشكل دؤوب، بينما الكلمات تضحى جُملاً. تخرج من المسبح وتجلس على إحدى الدواوين الإسمنتية المقابلة للنافذات العملاقة. تسحب دفترها الأحمر من شنطة السباحة الزرقاء، وتحاول استحضار معالم ذلك الجسم الذي اقتحمها. ثم تسترجع مسلسل الأحداث الذي أودى بها – لماذا هذا اليوم بالذات وليس غيره من الأيام؟ – إلى الخروج من المسبح قبل نهاية الوقت المحدّد مسبقاً للسباحة (أي بعد أربعين دقيقة فقط)، لأرشفة ما قد تكوَّن فيها إثر فعل السباحة، خوفاً من أن يتلاشى من جديد.
وإذ بقطَرات مياهٍ مُكَلوَرة تسقط من جسمها المبلول، فتتحّول الصفحة المشحونة بالكلمات، وبشكل مفاجئ، إلى صفحتين في آن معاً: الواحدة تظهر والثانية تختفي، في حركة تشبه تلك التي تسمّى في السينما بالdissolve، عندما تكون مدّة حركتي الظهور والاختفاء مؤقتة، وبالsuperimpose، عندما تدوم ويتحوَّل مزيج الصوَر معاً إلى صورة كاملة متكاملة. أمام عينيها الآنَ إذاً، صورة من شطرين: الشطر الأول يحتوي على كلمات لم تنجو جميعها من احتمال محوها العشوائي بفعل قطرات المياه المُكَلوَرة، والثاني يتألّف من جسم أحمر يتسلّل إلى الكلمات أو يبتعد عنها. تبدو لها دقيقة للغاية حركة الابتعاد والاقتراب هذه، أي صورة المحو والظهور التي تكوَّنت على الدفتر الأحمر. اذ أنها حدثت في ذلك اليوم وليس في غيره من الأيام، أي تحديداً في أول مرة عادت فيها إلى المسبح بعد تفجير المرفأ، الذي فُجِّر معه جزءاً غير قليلٍ من المدينة، وأنّها تشبه ما أنتجته الواقعة في نفسها من تنافٍ بين تجمُّع الكتابة فيها كالحصن، وتبعثرها بعيداً عنها في اللحظة نفسها. أما ذلك الذي حاولت كاميليا كتابته يومها، فبات لا يضاهي بالنسبة لها أهمية الشكل الذي نشأ من المادة نفسها، مزيج بين صفحة بيضاء ذات أسطر أفقية، كلمات مدَّونة بالفرنسية بالحبر الأحمر، وقطرات ماء مُكَلوَرة امتدت كالغشاء على سطح صفحة بيضاء.
أمّا نهلة، فلم تتعجّب عندما رأت الصفحة المتفجرة المُكَلوَرة. قالت: تبدو لي هذه الصفحة طرساً. تُنبّهني، وهي تنزاح نحو الأحمر، إلى ما نفتعله في المونتاج من عملية دمج بين النص والصورة. أليس هذا ما نتطلع اليه أنا وأنتِ دوما، لحظة تحوّل النّص إلى صورة، بينما نحن ندرك تماماً أنّهما جسمان منفصلان، ولن يقترن الواحد أبداً بالآخر؟ فالنص إذا جعل يتسلّل إلى الصورة، يهدّدها حيثُما تقاومه، والعكس صحيح. أما الفعل الناتج عن ذلك التَماس فليس وعلى خلاف ما هو ظاهر، فعل تلاحمٍ – أي أن أحدهم يرى في الآخر قرينه فيشق طريقاً نحوه – بل هو تناسخ – تماماً كعامودين موازيَين لشوكة رنّانة يرصدان بفعل مشترك جميع تردّدات الصوت. هنالك كلمة في الفرنسية تعبِّر عن ذلك بشكل أدقّ، إنها كلمة dédoublement، لم أنجح حتى الآن في العثور على ترجمة عربية تفصح عن الحركات والتناقضات التي تحتويها…