من المجموعة إلى الجمعيّة:
تجربة المجموعة المستقلة للعمل من أجل السينما CICA /
الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما ATAC

النسخة الفرنسيّة

إن هذا الحوار هو جزء من مجموعة “مدونات حول العمل الجماعي”، من تمويل مفردات

أُجريَت المحادثة التالية عبر تقنية “زووم” في نيسان ٢٠٢٢ (من بيروت وأوسلو وتونس العاصمة) مع اثنين من الأعضاء المؤسسين لـ”المجموعة المستقلة للعمل من أجل السينما” (CICA) التي أصبحت لاحقاً “الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما” (ATAC). تحدّثنا مع والمخرجة والمونتيرة ناديا تويجر والمخرج إسماعيل عن تلك اللحظات الحاسمة التي يولد فيها زخم لتشكيل مجموعات، وعن تحوّلات هذا الزخم مع مرور الزمن وتوالي الأحداث.

عدد من أعضاء المجموعة خلال عرض سينمائي عام ٢٠١٠

نور. لقد أردنا بعد اللقاء بين كارين وناديا في مهرجان قابس في تموز ٢٠٢١، أن نعرف المزيد عن “المجموعة المستقلة للعمل من أجل السينما” و”الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما”. ما يهمّنا بشكل خاص هو كيف تحوّلت المجموعة إلى جمعية. أي ما هي التحولات التي تطرأ على الرغبة في تشكيل مجموعة، وكيف تتمأسس المجموعة، وما هي الأدوار المختلفة التي يمكن لعبها، وما أنواع المسارات التي يمكن أن تنتج عن ذلك؟ 

ميرا. وهذا يعني أيضاً محاولة فهم السياق السياسي-الاجتماعي الذي  ظهرت فيه تلك الحاجة للعمل معاً وتشكيل مجموعة، وذلك للإجابة عن أي أسئلة ولتلبية أي حاجات؟ 

إسماعيل. مسألة السياق مهمّة، فالسياق الذي جمعنا كان مُحدَّداً جدّاً. ناديا، هل تريدين أن تبدئي؟ 

ناديا. أجل، أستطيع أن أبدأ. لكنّ ذاكرتي ضعيفة بعض الشيء في ما يخصّ التواريخ. فصحّحني إذا أخطأت. [ضحك] في عام ٢٠٠٢، كان السياق هو التالي: ديكتاتورية بن علي الخانقة مُتسمرّة منذ عشرين سنة. الناس سئموا من ذلك. وفي الوقت نفسه، بدأنا نشهد بدايات حركة مقاومة في الجنوب، في الضيف. كانت تصلنا أخبارٌ عن ذلك عبر فيسبوك، حيث نُشاهد مقاطع فيديو كانت تصوَّر سرّاً. وفي ذلك الجوّ، صرنا نرغب بإنتاج المزيد من الصور، نرغب في صناعة أفلام. بعضنا كانوا يعرفون بعضهم البعض، فيما آخرون كانوا لم يتعرّفوا على بعضهم البعض من قبل. ومن ناحية أخرى، فإنّ ما كان يحصل في قطاع السينما، في المؤسسات، كان نوعاً من نسخة عمّا يجري في البلاد.

كارين. من كمّ شخص كانت تتألف مجموعتكم في البداية؟

ناديا. بدأ الأمر باجتماعات غير رسميّة. أذكر أنّني كنت أشرب البيرة مع صديقي أمين المسعدي [مصوّر سينمائي]، الذي قال لي: “هناك أشخاص مثيرون للاهتمام علينا الذهاب لرؤيتهم. ثمّة اجتماعات تعقد في مكاتب إكزيت1شركة “إكزيت” للإنتاج هي واحدة من أولى شركات الإنتاج المستقلة في القطاع السينمائي التونسي، وقد أسّسها السينمائيّان علاء الدين سليم وعلي حسّونة “. في تلك الفترة، كانت هناك لجنة إصلاح أطلقتها وزارة الثقافة، وكان علاء الدين سليم [مخرج] وشوقي كنيس [منتج] قد علما بها. كانا يريان أنّ الإصلاح هذا لا ينبغي أن ينجزه قلّة من الاشخاص فقط، وفي الخفاء، وأنّ إصلاح القطاع، لكي يكون حقيقيّاً، عليه إشراك الجميع وتوحيدهم. لذلك أطلعا على الأمر كثيراً من الأشخاص. هكذا بدأت تُعقد اجتماعات غير رسمية – لم تكن المجموعة قد تشكّلت بعد – في مكاتب “إكزيت” في وسط المدينة. أعتقد أنّني التقيت معظم الأشخاص هناك. كان ذلك رائعاً لأنّه شكّل إطاراً لتبادلات حرّة، غير رسميّة وغير مُبرمَجة، ولا تهدف إلّا إلى اللقاء مع الآخرين، لأنّه كانت لدينا الأسئلة نفسها، ولأنه كان علينا أنّ نستغلّ هذا الإصلاح لفعل شيء ما. أغلبية المشاركين كانوا شبّان وشابّات تتراوح أعمارهم بين الـ25 والـ35 أو الـ40. كانت تلك فرصةً للنقاش.

 شوقي كنيس، ناديا تويجر وعلاء الدين سليم في اجتماع للمجموعة في مكاتب شركة الانتاج إكزيت عام ٢٠٠٩

كارين. متى سُميّت المجموعة بهذا الإسم؟

ناديا. أطلقنا عليها تسمية “المجموعة المستقلة للعمل من أجل السينما” بعد تلك الاجتماعات، وبعد محاولتنا حضور مناقشات الإصلاح – التي نُظمت في السرّ نوعاً ما – مع بعض ممثّلي القطاع، واستبعادنا منها. في تلك اللحظة قلنا لأنفسنا إنّه علينا أن نفعل شيئاً، أن نقترح ما نراه مشروعاً إصلاحيّاً حقيقيّاً. على امتداد أسابيع إذاً، أجرينا نقاشات في ما بيننا للتوصّل إلى مقترَح حقيقي. لم يقتصر الأمر على القول إنّ لجنة الإصلاح التي شكّلتها وزارة الثقافة لا تخدم مصالح السينما، وإنّها تخدم مصالح بعض الأشخاص فقط، وتروّج لأجندة الدولة. فبالإضافة إلى الإعتراض على ذلك، أردنا أن نقول أيضاً: هذا ما نقترحه، هذا ما يُمثِّلنا ويُشبِهنا. أعتقد أنّنا أصبحنا مجموعةً في تلك اللحظة تحديداً. لست أدري إذا كنتُ مُخطئةً يا إسماعيل؟ 

إسماعيل. في العام ٢٠٠٩، أراد نظام بن علي تنفيذ فكرة “لامعة” وهي إعلان عام ٢٠١٠ سنةً للشباب والسينما. كان هذا الإصلاح جزءاً من مشروع سياسي للنظام، تزامن مع سياق من السخط والسأم والإرهاق وانسداد الآفاق. تحضيراً لسنة الشباب والسينما إذاً، طلب السيد بن علي من وزارة الثقافة تشكيل لجنة لمراجعة القوانين الناظمة للعمل السينمائي وتحديثها بإشراف الدولة، وذلك لأنّ تلك القوانين باتت قديمة بعض الشيء. كان هذا المشروع سريّاً، لكنّ بعض الأشخاص علموا به، من بينهم علاء [الدين سليم]. كنّا إذاً بضعة أشخاص وأتينا بشكل مفاجئ وبلا دعوة إلى اجتماع تلك اللجنة في حمّامات. وقد حصلت مشادّة كلاميّة مع أعضاء اللجنة الرسميين. 

ناديا. قالوا لنا: “يمكنكم البقاء، لكن عليكم ألّا تتكلّموا”. [ضحك]

إسماعيل. تماماً. ما حصل في الواقع أنّ المخضرمين في المهنة رفضوا الحوار معنا. “نحن” كنّا حوالي عشرة أشخاص، من جيل الشباب، وكنّا حديثي العهد في مجال العمل السينمائي (منتجون، ممثلون، تقنيون…). أمّا هم، فكانوا يمثّلون السينما التونسية الرسيمة، سينما الثمانينيّات والتسعينيّات، “سينما الأباء”. هؤلاء كانوا أشخاصاً في الخمسين والستين من العمر، وكانوا على علاقة جيّدة بالنظام. لم يكونوا جميعهم أبواقاً للنظام. بعضهم كانوا كذلك. أمّا بعضهم الآخر، فكانوا على مسافة ما من النظام، لكنّ علاقتهم به كانت جيّدة إلى حدّ ما. كانوا ينجزون أفلامهم، ويحصلون على دعم مالي، وكانوا الآن يسعون – فيما بينهم – إلى اتّخاذ قرارات تخصّ الأجيال القادمة، إلى اتّخاذ قرارات نيابةً عن الشباب. هذا ما أغضبنا. لذلك حين اصطدمنا برفضهم الحوار معنا، قرّرنا إبلاغ الجميع وتشكيل لجنتنا الخاصّة. بدأ كلٌّ منّا يتّصل بأصدقائه. وفي أحد أكبر الاجتماعات، كنّا حوالي خمسين شخصاً. كانت تلك الاجتماعات تستمرّ لساعات، وكان ثمّة غليان! غليان مثل ذلك الذي سنشهده بعد سنة مع اندلاع الثورة. كنّا لا نزال قبل الثورة، لكنّنا خضنا في نقاشات جذريّة حول ما هي السينما وما ينبغي أن تكون. وبطبيعة الحال، أخذ عدد الذين يحضرون الاجتماعات يتناقص مع مرور الوقت، حتّى لم يتبقَّ منّا سوى ثلاثة عشر شخصاً. هذا سبب إطلاقنا على أنفسنا تسمية “مجموعة الـثلاثة عشر”. صارت الاجتماعات تعقد آنذاك بانتظام، وبتنا نلتقي مرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع. وصار البعض يقحمون أنفسهم أحياناً في اجتماعات اللجنة سعياً إلى الإنضمام إليها، لكنّ ذلك لم ينجح دوماً. كان الأمر كنايةً عن صراع مع أعضاء اللجنة، صراع سياسي وسينمائي في الوقت نفسه. كانت فكرتنا الأولى إعداد تقرير وتسليمه إلى الوزارة لعرضه على وزير الثقافة. وهذا ما فعلناه بعد عدّة أشهر. كان أوّل مشروع عملي نفّذناه هو صياغة هذا التقرير الذي بلغ عدد صفحاته…

ناديا. … حوالي مئة صفحة. أودّ أن أضيف شيئاً حول السياق. في تلك الفترة، كان ٨٠% – أتذكّر الرقم – من الإنتاج السينمائي التونسي من صنع شباب لا يتلقون دعماً مالياً. وقد طرأ تغيّر في تلك الفترة: صار التصوير باستخدام الفيديو متاحاً. وهذا ما زعزع شريحة من المخرجين التونسيين ممّن لم يكن متاحٌ لهم التصوير سوى باستخدام أفلام الـ٣٥ مليمتر؛ لكن من ناحية أخرى، كانت لديهم إمكانية الوصول إلى اللجان، وكانوا جزءاً من “لوبي” مؤثِّر. كان إنتاج الأفلام مكلفاً جدّاً، ما كان يُشكّل عائقاً كبيراً أمام الشباب. وفي فترة معيّنة، افتُتِح عدد كبير من المعاهد، وأُنشِئت أقسام للسينما في الجامعات في جميع أنحاء البلاد. كنّا نشهد فورةَ إنتاجِ صورٍ يصنعها الشباب بالوسائل المُتاحة ومن دون دعم، وأحياناً من دون الحصول على إذن، وبالتالي من دون أيّة علاقة بالوزارة. وبدأت تلك الصور تُشاهَد، وصارت تُعرَض في المهرجانات. لقد نشأت مجموعتنا، إذاً، في هذا السياق الذي زعزع “الآباء” – هكذا أُسمّيهم: “الآباء”. [ضحك] 

كان هناك أيضاً حدثٌ أساسي: الاجتماع في حمّامات، حيث عرضوا التقرير الإصلاحي. كانوا يقولون: “أنتم” و”نحن”. لم نستطع فهم هذا التمييز، فجميعنا كنّا صنّاع أفلام، جميعنا كنّا على متن القارب نفسه. كانت تلك معركة بالنسبة لهم. لكنّنا كنّا نريد محاورتهم في البداية، بالرغم من اختلاف المواقف. ذهبنا إلى هناك بهدف المشاركة، لكي يكون ثمّة تمثيل حقيقي للقطاع بأكمله. لكنّهم على الرغم من ذلك أصرّوا على هذا التمييز. كانت لديهم مشكلة فعلية مع الشباب، مع المستقبل. كانوا يخنقون هذه الحركة التي تتخطّاهم. كنّا بالنسبة لهم كعرقٍ آخر. 

أودّ أن أعود إلى نقطة ثانية: “مجموعة الـخمسين” التي أصبحت لاحقاً “مجموعة الـثلاثة عشر”. لا أعتقد أن سبب توقف البعض عن حضور الاجتماعات كان قلّة الاهتمام. لقد فكّرت في الأمر قبل لقائنا هذا وقلت لنفسي إنّ آليّة العمل آنذاك كانت، بالرغم من كلّ شيء، رائعة ومذهلة. كنتُ أشعر بأنّني لم أعش قبل تلك اللحظة شيئاً بهذه القوّة وبهذه النزاهة – شيئاً مؤثِّراً إلى هذا الحدّ أيضاً. كان يمكننا مناقشة نقطة ما لمدّة أسبوعين. كنّا نتناقش، ونزن الإيجابيات والسلبيات، كنّا نأخذ وقتنا فعلاً، نمنح أنفسنا الوقت لمناقشة الأمور. كانت تربطنا علاقة أفقيّة فكّنا نعطي أهميّة لجميع الآراء، كان ثمّة تبادل آراء حقيقي. كما لو أنّنا كنّا نُحدِّد معاً منطقةً سينمائيّةً مثاليةً، تلك التي نحلم بها في ما بيننا. أذكر أيضاً أنّنا لم نلجأ أبداً إلى التصويت. أبداً. في حال عدم التوصّل إلى توافق، كنّا لا نتوقّف عن المناقشة. لم نعتمد التصويت كآلية لحلّ الاختلاف في الآراء، ولا كوسيلة لاتخاذ القرارات. كان الأمر مساراً فعليّاً مع تبادلات حقيقيّة وهادئة جدّاً يمكنها أن تستمرّ لساعات. كنّا نبقى هناك طوال الليل، بلا نوم، نناقش ونكتب… 

كارين. هل حدث كلّ ذلك في أثناء تشكيل “مجموعة الـثلاثة عشر”، أي في ٢٠٠٩؟ 

إسماعيل. في تلك الأثناء، كنّا قد أصبحنا في عام ٢٠١٠ الذي كان يُفترض أن يكون عام السينما، وكان بن علي يريد أن يُعلن شيئاً ما. كنّا قد أنجزنا كتابة تقريرنا وقدّمناه إلى وزارة الثقافة. نظّمت الوزارة ذلك اللقاء الكبير في حمّامات، على بعد خمسين كيلومتراً من تونس العاصمة. في مركز ثقافي ضخم يقع على الشاطئ، مركز جميل جدّاً في وسط حديقة… إلخ. فدعونا إلى المُشاركة. تلقيّنا دعوة، أليس كذلك؟

ناديا. كلا، كلا، لم نتلقَّ أي شيء.

إسماعيل. [ضحك] لكنّنا ذهبنا بالرغم من ذلك! كنّا هناك، وكان الوزير هناك.

ناديا. [ضحك] تلك الحادثة تُلخِّص كل شيء. ما حصل في الواقع أنّه في إحدى الأمسيات في حانة ما، كان هناك رجل من الوزارة – لن أذكر اسمه – سكران بعض الشيء فكشف لنا أنّ اجتماعاً سيُعقد في حمّامات: هكذا وصلتنا المعلومة. كنتُ آنذاك في بروكسل فاستخدمت مال إيجار شقّتي لشراء بطاقة سفر، ووصلت إلى مكتب “إكزيت” من دون إعلامك بذلك مسبقاً. [ضحك] كنّا ستة أشخاص في السيارة، ووضعنا خطّةَ هجومٍ مضاد ونحن في طريقنا إلى الاجتماع: وزّعنا المهام واتّفقنا على أنّه في كلّ مرّة سيعرضون فيها نقطة من مشروع الإصلاح، سيتكلّم شخص منّا ويُناقش. وصلنا: كان في الموقف سيّارات فاخرة وأخرى ذات دفع رباعي؛ أمّا نحن، فكّنا ستة أو سبعة أشخاص في سيّارة صغيرة! [ضحك]

إسماعيل. كان كلّ ذلك قبل الثورة2 الثورة التونسية التي أدّت إلى رحيل الرئيس زين العابدين بن علي في كانون الثاني ٢٠١١ (كان يشغل منصبه منذ العام ١٩٨٧) . ثم اندلعت الثورة بعد بضعة أشهر.

ناديا. عُرِض مشروع الإصلاح اختتاماً لعمل هذه اللجنة المُعيّنة من قبل الوزارة. إذا كنتَ تذكر جيداً، فإنّ النصّ الذي عُرِض كان يُمجِّد صورة تونس، مُستعيداً كلمات نظام بن علي. ثمّة قصّة مُضحكة: لقد أدركنا أنّ فصلاً كاملاً كنّا قد كتبناه، أُدرِجَ في التقرير الرسمي. كان هناك الكثير من الثغرات في تقريرهم إلى حدّ أنّهم نسخوا مقترحاتنا من دون سؤالنا أي شيء عنها. هم في الواقع لم ينسخوها، بل قاموا بتصويرها فحسب. ترقيمنا للصفحات كان هو نفسه في تقريرهم. أدرجوا فصلنا كما هو في التقرير الرسمي. [ضحك] وفي غضون ذلك، بدأت تصلنا تهديدات غير رسمية، إذ كنّا قد قدّمنا طلبات للحصول على دعم مالي من الدولة. كنّا قد قدّمنا ملفّات لمشاريع أفلام، فأوصلوا لنا رسائل غير رسيمة مفادها أنّه علينا التوقف عمّا نفعله، أنّ ذلك يمكن أن يسبّب لنا مشاكل، أنّه لن يعود بإمكاننا إنجاز أفلام… حصلت إذاً محاولات ترهيب. 

ميرا. كان ثمّة إذاً، عل نحوٍ ما، شيءٌ يستشرف المُستقبل في هذا المشروع، في فكرة الانتظام واستعادة السلطة، في محاولة جيل شاب أنّ يُنظِّم نفسه؟ 

إسماعيل. صحيحٌ أنّه كان هناك عدّة اندفاعات ثوريّة في تونس قبل فترة ٢٠١٠-٢٠١١، وقد تجلّت بأشكال متعدّدة. كانت هناك حركة “ألتراس” قوية جدّاً. “الألتراس” هم مجموعة من مشجّعي أندية كرة القدم. كانت حركة مهمّة تُنظَّم في ملاعب كرة القدم، كان لديهم أناشيدهم الخاصة. وقعت اشتباكات عديدة بين المشجعين “الألتراس” والشرطة. حتّى أنّه وقع قتلى. ومن ناحية أخرى، كان هناك أيضاً انتفاضة الحوض المنجمي في عام ٢٠٠٨، وهي الانتفاضة الأولى التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة. كنّا نرى صوراً ونشاهد مقاطع فيديو على الإنترنت ويوتيوب وفيسبوك… إلخ. وكان هناك أيضاً مجموعة مهمّة ومنظَّمة من المعارضين والناشطين الرقميين. ما بين عام ٢٠٠٨ واندلاع الثورة، كان هناك إذاً أشخاص ينظّمون أنفسهم في كل مكان تقريباً: في الملاعب، عبر الإنترنت، في قطاع السينما. كان الجوّ مشحوناً، وأعتقد أن المجتمع التونسي وصل آنذاك إلى نقطة اللاعودة. أمّا أنا، فقد بدأت أفكّر بالمستقبل انطلاقاً من الثورة. أي أنّني قبل ذلك، لم أكن أفكّر بما يمكن أن يحصل في البلد، على الصعيد الجماعي، بعد خمس سنوات. بالنسبة لي، كانت الأمور محسومة: سيكون هناك بن علي، والشرطة، والصحف التي نعرفها، والسينما التي نعرفها… إلخ. كان الأفق بيدو لي مسدوداً، لكن النظام بدأ يفقد تدريجيّاً سيطرته على الأرض، وعلى الناس، وعلى فئات معيّنة من الأشخاص. تنبغي الإشارة إلى أنّ الشباب التونسي مُتعلِّم إلى حدّ لا بأس به، وأنّه متّصل بالإنترنت وببقيّة العالم. تشابك كلّ ذلك وتبلوَر، ما تجلّى في ظهور جيوب مقاومة في كلّ مكان تقريباً. نتيجة لذلك، كانت السلطة تنظر إلينا على أنّنا معارضون، بالمعنى السياسي للكلمة، وليس فقط كأشخاص يصنعون أفلاماً مُغايرة بكاميرات صغيرة.

ناديا. كنّا في الواقع منخرطين في السياسة، سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه. كلّ ما كنّا نناقشه – وخصوصاً نصوص القوانين التي تحكم قطاع السينما – كان سياسيّاً بكل ما للكلمة من معنى. هناك علاقات هرميّة جدّاً في مهنة السينما. بالتالي، فإنّ طرح تساؤلات حول إمكانيّة صناعة الأفلام، وحول نظرتنا إلى المواقع والمهن المختلفة في القطاع، لم يكن شأناً سينمائيّاً بحتاً، إذ كان ذلك ينطوي على إعادة التفكير في موقف كلّ منّا من الطريقة التي تحصل بها الأمور. الجميل في هذه التجربة هو أنّ ما كان يحدث بيننا أثناء كتابة ذلك التقرير الإصلاحي، كان يُشكِّل أيضاً نوعاً من الاختبار. كان علينا تعلّم قبول بعضنا البعض وخلق إطار يُتيح لنا الاستماع إلى الجميع. لم يكن لأعضاء المجموعة أيّ انتماء سياسي مباشر، ولم يكونوا ناشطين سياسيين بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن كان ثمّة وعي سياسي حادّ. أن تطلب إذناً للتصوير يعني أن تكون على علاقة مباشرة بالسلطة. هناك بالضرورة دلالة سياسيّة لذلك.

أمين المسعدي، شوقي كنيس واسماعيل خلال اجتماع  للمجموعة في مكاتب شركة الانتاج إكزيت عام ٢٠٠٩

نور. اجتمعتم إذاً عفويّاً في البداية، ثم تحوّلتم إلى مجموعة. ما أودّ معرفته هو ما إذا حصل تبدّل في طريقة العمل عندما تولّت المجموعة كتابة التقرير. هل توجّب عليكم، مثلاً، وضع نظام داخلي؟ باختصار، كيف جرى هذا الانتقال نحو “مأسسة” المجموعة؟ 

إسماعيل. سأحاول أنّ أتذكّر بأكبر قدر من الدّقة. في البداية، أجل. كنّا في حالة ردّ فعل على ما يحصل، وكنّا نشعر أنّه علينا حتماً فعل شيء ما، أنّه ينبغي ألّا نسمح بتمرير مشروع القانون ذلك. لكنّنا لم نكن نملك خطة للمعركة، لم نكن نملك نظرية. كان الأمر أشبه بغريزة البقاء. وبعد ذلك، كان أوّل ما جمعَنا بشكل عمليّ وملموس أكثر، هو كتابة ذلك التقرير الذي سميّناه “تقرير حول إصلاح السينما”، وهو عنوان طويل ومُدَّعٍ بعض الشيء، أعترف بذلك. آنذاك استقرّينا على الرقم ١٣: الأعضاء الـثالثة عشر الذين كانوا يحضرون بانتظام. وآنذاك أيضاً قرّرنا تسميّة المجموعة، فاعتمدنا اسم “الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما” (ATAC). وبعد ذلك أصبحت الكتابة جماعيّة بالفعل. كنّا نكتب معاً: ستة أشخاصٍ، أو سبعة أو ثمانية. كانت تصلنا أحياناً اقتراحات عبر البريد الإلكتروني: كنّا قد قلنا لأنفسنا إنّنا بخلافهم “هم”، سوف نكون منفتحين إلى أبعد حدّ ممكن. لذا، حاولنا الحصول على أكبر عدد ممكن من آراء العاملين في قطاع السينما التونسية. أعتقد أنّ العدد وصل إلى الـمئتين في وقت ما، وكنّا نراسلهم عبر البريد الإلكتروني لإعلامهم بما كنّا نفعله. كنّا ندعوهم للحضور؛ وإذا تعذّر عليهم ذلك، كنّا ندعوهم إلى إبداء ملاحظاتهم حول مختلف النقاط التي كنّا نرسلها إليهم. ثم أتت الثورة. وتمأسست مجموعتنا بعد ذلك. حتّى تلك اللحظة، كان الأمر حقّاً… كانت الأمور لا تزال بسيطة: النقاش، ثم كتابة ما نتوصّل إليه من خلال النقاش. كانت هناك فترات نلتقي فيها كلّ يوم تقريباً. لم نكن نتّبع جدول أعمال، كانت لدينا حريّة التصرف بوقتنا إلى حدّ ما. لكنّني أعتقد أنّه في ذروة نشاطاتنا، مرّت عدّة أسابيع التقينا خلالها كلّ يوم تقريباً.

ميرا. ماذا تقصد بالضبط بعبار “قبل أن نتمأسس”؟ 

إسماعيل. أي أنّنا أصبحنا جمعيّةً بعد الثورة. فقبل ذلك، لم يكن لدينا أي صفة رسمية. كنّا مجرّد مجموعة من الأشخاص قرّروا كأفراد، وخارج أي إطار قانوني ومؤسّسي، أن يجتمعوا ويتناقشوا بهدف كتابة تقرير يُعبِّر عن نظرتهم إلى السينما ومشاركته مع آخرين. 

ناديا. أعتقد أننّا طرحنا على أنفسنا، في مرحلة ما، مسألة إنشاء إطار قانوني والتحوّل إلى جمعيّة لها أُسُس متينة. لكن قبل الثورة، كان الحصول على مصادقة قانونيّة لإنشاء جمعيّة يتطلّب أن تكوني قريبةً من السلطة، أو أن يكون بعض الأعضاء مؤيّدين لبن علي أو لـ”التجمع الدستوري الديمقراطي” [الحزب الحاكم]. لم تكن تلك حالتنا. لذلك لم نحاول بتاتاً إنشاء إطار قانوني، وبقينا نعمل في الهامش إلى حدّ ما. لكن ما أن اندلعت الثورة حتّى قلنا لأنفسنا إنّه صار يمكننا أن نكون موجودين فعلاً. غير أنّ ذلك ترافق مع تحوّل تاريخي. فالثورة جعلتنا نُدرِك أنّ معظم تركيزنا كان محصوراً بمسائل تتعلّق بقطاعنا فحسب. لكنّ رغبتنا كانت، في نهاية المطاف، الوصول إلى الناس، إلى الأشخاص الذين يذهبون لمشاهدة الصور التي نصنعها. لذلك طرحنا على أنفسنا الكثير من الأسئلة: حول معنى صناعة أفلام لا تُشاهد، حول كيفيّة تلقّي المشاهدين للصور التي نصنعها… إلخ. يمكن القول، إذاً، إنّه في لحظة إنشاء الجمعيّة، كانت ١٠% من نشاطاتنا موجّهة نحو المواطنين، فيما ٩٠% منها كانت موجّهة نحو القطاع أو نحو المشاركة في الإصلاح وفي اللّجان… لكن بمجرّد أن أصبح لدينا إطاراً قانونياً حتّى صرنا نتوجّه أكثر إلى المواطن. 

كارين. هل يمكن إعطاء أمثلة عمّا كنتم تفعلونه؟ 

ناديا. قمنا بالعديد من النشاطات. نَمَت المجموعة وتوسّعت. نظّمنا عروضاً سينمائيّة متنقّلة في جميع أنحاء تونس، في مناطق بعيدة جدّاً عن العاصمة. ونظّمنا ورش عمل بالوسائل المُتاحة. بدأنا في الواقع نقيم ورش عمل في مراكز ثقافيّة. وبعد ذلك نظّمنا حلقات نقاش حول مواضيع كانت تبدو لنا مهمّة. كنّا نموّل ذلك من خلال مساهماتنا الشخصيّة أو مساهمات أشخاص مقرَّبين منّا. لكنّنا أدركنا أنّه علينا البحث عن مصادر تمويل أخرى لكي نتمكّن من إنجاز أمور ذات أثر أكبر. العروض السينمائيّة المتنقلّة أتت لاحقاً، فالمشروع هذا كان يتطلّب تمويلاً أكبر وقدرات تنظيميّة أكثر تعقيداً. وقد حدث تحوّل آخر في تلك الفترة أيضاً. حصلنا على تمويل من “المورد الثقافي” من أجل إنشاء مكتب تنفيذي وإقامة تدريبات في مجالَي الإدراة الفنيّة والتنظيم. لقد شكّل ذلك تغيّراً كبيراً. أمور مثل الفعل العفوي والهامشي، والرغبة العميقة في العمل معاً، تحولّت كلّها إلى مشروع أكثر تنظيماً، مشروع يتلقّى دعماً ماليّاً. لقد حدث إذاً تحوّل هيكليّ. أصبح العمل أكثر إداريّاً. صرنا نجتمع مرّة في الأسبوع وننجز أموراً أوسع نطاقاً وذات أهمية أكبر.

كارين. هل أدّى ذلك إلى تراجع في أهميّة النقاش، أمّ أنّ النقاشات بات لها طابع آخر؟ 

نادياً. أذكر أنّه كان هناك دوماً نقاش. كانت النقاشات ذات مستوى عالي جداً، سواء اتّفقنا أم لم نتّفق. لكن من ناحية أخرى، أذكر أنّ المهام بات تشكِّل عبئاً ثقيلاً، فكلّما اتّسع نطاق المشروع زاد عدد الأمور التي ينبغي تنظيمها والقيام بها. كنّا نرغب في إنجاز أمور كثيرة من دون نجد الوقت الكافي لذلك. وبموازاة ذلك، كان علينا متابعة أعمال لجنة إصلاحية أخرى أُنشئت بعد الثورة، وكان ذلك مرهقاً. مؤيدو النظام الذين كانوا ينشطون في قطاع السينما ما قبل الثورة، تواروا عن الأنظار لمدّة عام، ثمّ ظهروا من جديد كأنّ شيئاً لم يكن. كان الأمر أشبه بفقدان الذاكرة على نطاق شامل. أعتقد أنّ تحوّلَيْن طرآ على المجموعة. الأوّل عندما صارت نشاطاتنا تتوجّه أكثر إلى المواطنين، والثاني عندما أردنا توسيع نطاق عملنا وتأمين الوسائل لذلك. ينبغي القول أيضاً إنّنا بدأنا “نشيخ”. وقد تأثّر كلّ ذلك، على نحوٍ كبير، بالقرارات والالتزامات الشخصيّة، والآفاق المُستقبليّة لكلٍّ منّا. بات كلٌّ منّا منهمكاً أكثر فأكثر. ونتيجةً لذلك، صارت “الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما” تُشكِّل حملاً ثقيلاً. 

كارين. وكيف تطوَّرت العلاقة بالسلطة؟

ناديا. أعتقد أنّه كان هناك لحظة أساسيّة حاسمة أخرى. فنتيجة إنشائنا جمعيّةً، صار يمكننا المشاركة رسميّاً في النقاشات التي تمثّل قطاع السينما؛ صار يمكننا المشاركة في اللجنة الإصلاحية على سبيل المثال. أذكر أنّ نقطة التحوّل هذه أثارت نقاشاً جوهريّاً – لم نكن جميعاً متّفقين. كان ذلك قبل رحيلكَ بقليل أنت أيضاً يا إسماعيل. نحن الذين أتينا من الهوامش، صرنا نخوض في نقاشات حول ما إذا كان يمكن تغيير الأمور من الداخل أم لا، حول ما إذا كان علينا المكوث في الهامش والحفاظ على مسافتنا من النظام أم لا. 

إسماعيل. كنتُ حاضراً عندما أُنشِئت الجمعيّة، لكنّني غادرتها في الفترة التي سمّتها ناديا نقطة التحوّل الثانية. أذكر أنّني شاركت في كتابة طلب المنحة الذي قدّمناه إلى “المورد الثقافي”. غادرتُ عندما حصلنا على تلك المنحة. لقد حدث ما يحدث عموماً: انقسام بين الذين يريدون فعلاً مواجهة النظام والسلطة، والذين يعتقدون أنّه من الأفضل السعي لتغيير الأمور من الداخل وبطريقة غير صداميّة، من خلال النقاش والحوار. حصل انقسام حادّ آنذاك، اختلاف في وجهات النظر يعكس ما كان يجري في البلاد عموماً. لم يكن الدستور قد أقرّ بعد، وكان العمل على تنظيم الانتخابات قد بدأ. كان الناس منقسمون بين من يريد مقاطعة الانتخابات، ومن يرى أن التصويت هو السبيل إلى التغيير. كان هذا السؤال مطروحاً على الشعب والمجتمع ككل. كانت تلك لحظة انقسام فكري وسياسي داخل الجمعيّة، انقسام حول مسألة علاقة الجمعيّة بالسلطة. 

ناديا. للتوضيح، أعتقد أنّنا نحن من أُصيب بما يشبه الفصام – وهذا ما أضعفنا لاحقاً. أعني أنّنا أردنا في الوقت نفسه أن نؤْمِن بإنجازات الثورة، وأردنا أنّ نؤكّد أنّ للجمعيّة مكانها وأنّه علينا المكافحة من أجل المشاركة في النقاشات، وذلك مع الحفاظ على قدر من النزاهة. أتذكّر ذلك جيّداً لأنّني حضرت مع شوقي اجتماعات اللجنة الإصلاحيّة، وكانت المشاركة فيها مؤلمة للغاية. كنّا نشعر بعد كلّ اجتماع أنّه لا قيمة لنا. كان انطباعنا أنّنا لا ننقاش مسائلَ تتعلّق بالسينما، وإنّما نخوض معركة سياسيّة. كنتُ أجد نفسي أمام أشخاص لديهم أهداف أخرى، ونحن بقينا معارضين للنظام – هذا ما ينبغي توضيحه. كنّا بالنسبة لهم كشوكة، بالرغم من تمثلينا لجمعيّة فاعلة ومُعترف بها، تدعمها مجموعة من الأشخاص. كنّا كالمنبوذين خلال تلك الاجتماعات. كانوا يسمّوننا “حزب اللا”. ما تعلّمته آنذاك هو أنّه هناك سياقات ينبغي أن نسعى فيها إلى البروز، لكن لا يمكننا أن نفعل ذلك دوماً. ثم غادر الكثيرون الجمعيةَ لأسباب مختلفة. لقد أضعفنا ذلك. المساعدات الماليّة أضعفتنا أيضاً. كان الدعم الذي نتلقّاه غالباً ما يملي علينا أُطراً تنظيميّة مُعيّنة. كان الإطار التنظيمي الذي اقترحه علينا “المورد الثقافي” يُناسبنا في ما يخص بعض الأمور، لكنّه لم يكن يتوافق إطلاقاً مع أمور أخرى. كان لدينا انطباع بأنّها أُطرٌ جاهزة ينبغي علينا الالتزام بها. لقد ناسبنا ذلك لفترة، ثمّ تحوَّل عبئاً ثقيلاً. لكن ينبغي القول إنّ ذلك كلّه حصل في جوّ من الودّ المتبادل. علينا التذكير بذلك. [ضحك]

شوقي كنيس، علي حسونة، منصف طالب، امين المسعدي، علاء الدين سليم، ناديا تويجر واسماعيل في حمامات، ٢٠١٠ 

كارين. واليوم، كيف أصبح الوضع؟ هل لا تزال الجمعية موجودة؟ 

ناديا. كلا، لقد تلاشت… لم يُتّخذ قرار جذري بحلّها، كان هناك قرار بإيقافها مؤقّتاً. يمكنها أن تعود إلى الحياة في يوم ما، لكنّني أعتقد أنّها تلاشت بسبب الإرهاق، لأنّ كلّ واحد منّا كان لديه مشاريعه، وقد صارت أعمارنا خمسة وثلاثين أو أربعين عاماً، وكنّا نرغب في تصوير أفلامنا، وأصبح لدينا وقت أقلّ. وكان هناك أشخاص لديهم التزامات عائليّة… 

كارين. والآن، هل هناك كيانات أو مبادرات شبيهة بجمعيّتكم؟ هل تعتقدين أنّ تجربة “الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما” شكّلت إلهاماً لتأسيس مجموعات أو جمعيات أخرى؟ 

ناديا. لا أعتقد شخصيّاً أنّ ذلك شكّل إلهاماً مباشراً لتأسيس أيّ شيء. لكن أعتقد أنّ بعض الجوانب تركت أثراً: الأفقيّة، وغياب القيادة، وواقع أنّ لا أحد استخدم الجمعيّة للترويج لنفسه. ذلك كلّه مهمّ، لأنّ ما كنّا نراه قبل ذلك كان ينطوي عموماً على التمركز حول الذات، وعبادة القائد، والمساعي الفرديّة حصراً. أعتقد أنّ طريقة العمل المغايرة التي انتهجتها جمعيّتنا تركت أثراً. لقد سمعنا ذلك من عدّة أشخاص. لكن من الصعب معرفة ما إذا كانت الجمعيّة قد شكّلت إلهاماً لتأسيس مجموعات أخرى، ذلك أنّ فترة ما بعد الثورة شهدت طفرةً في الجمعيات والكيانات، وفي الدعم المالي أيضاً، الذي أتى من كلّ مكان تقريباً، وخصوصاً من قطر. وهذا أمرٌ خطير بعض الشي، ذلك أنّ وفرة الأموال تعني أنّ ثمّة أجندات ينبغي اتّباعها. حسب ما أتذكّر، لم يكن هناك مجموعات تشبه “الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما”… 

إسماعيل. ربمّا ذلك أفضل. ما مررنا به كان خاصّ جداً بتجربتنا في ذلك الوقت. هناك اليوم أشخاص آخرون لا يشبهوننا بالضرورة. أرى اليوم الشباب الذين يصنعون أفلاماً ويبلغون عشرين عاماً، أولئك الذين تخرّجوا حديثاً. عمرنا ضعف عمرهم تقريباً. [ضحك] هم من عليهم قتلنا الآن. نحن صرنا الآباء والأمهات. عليهم أن ينظروا إلينا كالمثال الذي ينبغي تجاوزه أو إعادة اختراعه. كما أنّ تلك الأمور كلّها حدثت قبل أكثر من 13 سنة. نحن اليوم في عام ٢٠٢٢. أعتقد مثل ناديا أنّه من الصعب للغاية الإحاطة بجميع الحركات والمجموعات الناشئة. بقدر ما كانت الأمور بسيطة في السابق، لأنها كانت استثنائيّة، بقدر ما أصبحت مُعقّدة اليوم، لأنه صار هناك عدد كبير من المجموعات والجمعيات… إلخ. وليس في مجال السينما فحسب، وإنما في مجالات أخرى كالموسيقى و”الراب”، والفن المعاصر، والرقص المعاصر. في الحقبة السابقة، كان الانتظام في مجموعات والعمل الجماعي أمرَيْن لا يمكن تصوّرهما تقريباً. ثمّ فجأة، بعد أربع أسابيع، انتهى كلّ شيء. كان بن علي قد استقلّ الطائرة ورحل، فأصبح كلّ شيء ممكناً. على امتداد سنوات وحتّى اليوم إذاً، خيضَت تجاربُ إنشاءِ مجموعات وجمعيات كثيرة. وكان هناك أيضاً الكثير من المال. لكن في حالتنا، كنّا نضّطر إلى الإنفاق من جيوبنا. نظراً إلى التباين بين هذين السياقَيْن، أعتقد أنّه من الصعب جدّاً على مجموعة من الشباب أن تفعل ما فعلناه: لقد تغيّرت الأوضاع.

نور. ماذا استخلصتما من هذه التجربة على الصعيد الشخصي؟

ناديا. بالنسبة لي: فكرة “الممكن”، إعادة النظر في كلّ شيء (أثناء تلك المرحلة على ألاقلّ)، إعادة التفكير في كلّ شيء – على نطاقنا – وإعادة تحديد احتياجاتنا، وما هو معنى صناعة الصورة. لقد أعادنا كلّ ذلك إلى جوهر المهنة التي كنا نريد الخوض فيها. كما أحتفِظُ بشعور جميل جدّاً، بعد سنوات وسنوات من العزلة – فبن علي كان قد نجح في عزل الناس ولم يترك أيّ مساحة للتعبير والكلام. ذلك الشعور الجميل كان نتيجة التلاقي مع الناس، والحوار، وإعادة تعريف السينما معاً. الكلام عن السينما بهدف المتعة فقط، هكذا، من دون أيّة غاية أخرى، فقط لكي تلتقي أعيننا. 

إسماعيل. عندما شرعنا في تشكيل المجموعة، لم أكن أعرف أحداً غير علاء. من ناحية شخصيّة إذاً، أتاحت لي هذه التجربة لقاء أشخاص أصبحوا لاحقاً أصدقاء لي، أصدقاء أعزّاء جدّاً لعبوا دوراً أساسيّاً في مسيرتي المهنيّة – بالمناسبة، لقد تعاونا لاحقاً في إنجاز بعض المشاريع السينمائيّة. للمرة الأولى في حياتي، صرت أستطيع رؤيةَ أفقٍ مستقبليٍّ أتشارك فيه مع آخرين. هذا ما كان بيدو مستحيلاً في السابق. أعتقد أيضاً أنّني استفدت وتعلّمت كثيراً من الناحية السينمائيّة. لم أكن قد تكلّمت عن السينما بهذا القدر قبل ذلك: كيف نصنع أفلاماً، وكيف نصنع أفلاماً معاً، وكيف نمكّن الجميع من صناعة أفلام، وكيف نمكّن الخرّيجين الجدد من صناعة أفلام بسرعة. لم نكن نتكلّم عن الأفلام بحدّ ذاتها، أي عن الأعمال السينمائية بحدّ ذاتها. كان أمراً مذهلاً فعلاً: مخرجون وتقنيّون يتكلّمون عن السينما لأشهر وأشهر، لكن من دون الاهتمام بالأفلام بحدّ ذاتها – أي بالناحية الجماليّة – وإنّما بكيفيّة إنجازها عمليّاً، وماديّاً، وبأي تمويل، وبأي وسائل، وفي إطار أي قوانين…

ناديا. كنّا نتكلّم عن أمر يعني لي الكثير، أمر أراه فائق الجمال: فعل الإبداع، فعل صناعة الصورة، ولادة هذا الفعل الإبداعي. يجب أن نتذكّر أيضاً أنّنا خضنا الثورة معاً، أنّنا أكلنا معاً ونمنا في الأمكنة نفسها، أنّنا واجهنا الشرطة معاً. في اليوم الذي أبرحتنا فيه الشرطة ضرباً خلال إحدى التظاهرات، ذهبنا للتبّرع بالدم معاً، لأنّنا لم نعد قادرين على المشاركة في التظاهرات. هل تتذكّر ذلك؟ كان هناك أمورٌ تولِّد أحاسيس عميقة وحادّة. 

إسماعيل. لقد تشكَّلت مجموعتنا في الشارع، حرفيّاً.

كارين. هل سنحت لكما الفرصة للتحدّث عن “الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما” قبل الآن؟ هل سبق لكما محاولة تقييم هذه التجربة؟

إسماعيل. هذه المرة الأولى بالنسبة لي. في ما يتعلّق بفيلم “بابل3فيلم من إخراج إسماعيل ويوسف الشابي وعلاء الدين سليم، ١١٩ دقيقة، ٢٠١٢، لقد قمت بذلك على نحو منتظم إلى حدّ ما. لكنّها المرّة الأولى في ما يخصّ”الجمعية التونسية للعمل من أجل السينما”.

ناديا. تطرّقتُ إلى الموضوع أثناء نقاشات سريعة وعابرة، لكن لم أتحدّث عنه مطوَّلاً وعلى نحو معمّق قبل الآن.

كارين. لديّ انطباع بأنّ هناك أمور قيلت للمرّة الأولى، أمور ترافقت تالياً مع الكثير من المشاعر.

إسماعيل. ربّما سَبَبُ ذلك تحديداً أنّها أمور نتكلّم عنها للمرّة الأولى. لكنّني انتبهت الآن إلى أنّ عدم التكلّم عنها جعل بعضاً منها ضبابيّاً – لكن قد تقولين لي إنّ ذلك طبيعي نظراً إلى انقضاء أربع عشرة سنة. لا أستطيع أن أكون دقيقاً، ليس لديّ صور واضحة كتلك التي يمكنني استحضارها للكلام عن فيلم “بابل” وعن الأشياء التي حدثت بعد ذلك.

ناديا. لكلّ منّا الطريق الذي سلكه. لقد تطوّرنا جميعاً، لكن هناك شيء لا يزال يقلقني، وهو علاقتنا بالأشخاص الذين خضنا معهم هذه التجربة. أعتقد شخصيّاً أنّ هناك رابط لا فكاك منه يجمعنا. يعيدني هذا الشعور إلى حمّامات، إلى ذلك المساء الشهير عندما أتوا لعرض مشروع الإصلاح تنفيذاً لإرادة الدولة، عندما وجدنا أنفسنا نشرب البيرة ونتساءل: ما الذي جعل هؤلاء الأشخاص يصبحون ما هم عليه الآن، وهذا بالرغم من أنّ أكثرهم كان يملك وعياً سينمائيّاً وسياسيّاً، وبالرغم من أنّهم أصدقاء؟ أخذنا نضحك ونحن نؤدّي لعبة المرايا. صرنا نقول: “نأمل ألّا نصبح مثل آبائنا!” بقيت هذه الأمسية في ذاكرتي. لا أريد أن أُطلِق أحكاماً، لكنّ الأمر كان مثل رؤيةِ صورةٍ واضحة لما لا نريد أن نكونه.   

ترجمة النص من الفرنسيّة الى عربيّة : طارق أبي سمرا

  • 1
    شركة “إكزيت” للإنتاج هي واحدة من أولى شركات الإنتاج المستقلة في القطاع السينمائي التونسي، وقد أسّسها السينمائيّان علاء الدين سليم وعلي حسّونة
  • 2
    الثورة التونسية التي أدّت إلى رحيل الرئيس زين العابدين بن علي في كانون الثاني ٢٠١١ (كان يشغل منصبه منذ العام ١٩٨٧)
  • 3
    فيلم من إخراج إسماعيل ويوسف الشابي وعلاء الدين سليم، ١١٩ دقيقة، ٢٠١٢